الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***
{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} قوله عز وجل: {حم عسق} فيه سبعة تأويلات. أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. الثاني: أنه اسم من أسماء الله أقسم به، قاله ابن عباس. الثالث: فواتح السور، قاله مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا، قاله عبد الله بن بريدة. الخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء الله فالحاء والميم من الرحمن والعين من العليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر، قاله محمد بن كعب. السادس: أنها حروف مقطعة من حوادث آتية، فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين من استئصال سنين كسني يوسف، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء. السابع: ما حُكي عن حذيفة بن اليمان أنها نزلت في رجلٍ يقال له عبد الإله كان في مدينة على نهر بالمشرق خسف الله بها، فذلك قوله حم يعني عزيمة من الله تعالى، عين يعني عدلاً منه: سين يعني سكون، قاف يعني واقعاً بهم. وكان ابن عباس يقرؤها: {حم سق} بغير عين، وهي في مصحف ابن مسعود كذلك حكاه الطبري. قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتشققن فَرَقاً من عظمة الله، قاله الضحاك والسُّدي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليت السماء تفطرت أكنافها *** وتناثرت منها نجوم الثاني: من علم الله، قاله قتادة. الثالث: ممن فوقهن، قاله ابن عباس. الرابع: لنزول العذاب منهن. {وَالْمَلآئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: بأمر ربهم، قاله السدي. الثاني: بشكر ربهم. وفي تسبيحهم قولان: أحدهما: تعجباً مما يرون من تعرضهم لسخط الله، قاله علي رضي الله عنه. الثاني: خضوعاً لما يرون من عظمة الله، قاله ابن عباس. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لَمَن فِي الأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: لمن في الأرض من المؤمنين، قاله الضحاك والسدي. الثاني: للحسين بن علي رضي الله عنهما، رواه الأصبغ بن نباتة عن علي كرم الله وجهه. وسبب استغفارهم لمن في الأرض ما حكاه الكلبي أن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس وهو جد أبي نوح عليه السلام، وسألاه أن يدعو لهما سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم. وفي استغفارهم قولان: أحدهما: من الذنوب والخطايا. وهو ظاهر قول مقاتل. الثاني: أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي. وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي. الثاني: أنهم حملة العرش. قال مقاتل وقد بين الله ذلك من حم المؤمن فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ} وقال مطرف: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} قوله عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال الضحاك أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى. {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فَِي رَحْمَتِهِ} قال أنس بن مالك: في الإسلام. {وَالْظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} يمنع {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفع.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} قوله عز وجل: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {وَمِنَ الأَنْعَامِ أزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} وفيه ستة تأويلات: أحدها: يخلقكم فيه، قاله السدي. الثاني: يكثر نسلكم فيه، قاله الفراء. الثالث: يعيشكم فيه، قاله قتادة. الرابع: يرزقكم فيه، قاله ابن زيد. الخامس: يبسطكم فيه، قاله قطرب. السادس: نسلاً من بعد نسل من الناس والأنعام، قاله مجاهد. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه وجهان: أحدهما: ليس كمثل الرجل والمرأة شيء، قاله ابن عباس، والضحاك. الثاني: ليس كمثل الله شيء وفيه وجهان: أحدهما: ليس مثله شيء والكاف زائدة للتوكيد، قال الشاعر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم *** ما إن كمثلهم في الناس من أحد الثاني: ليس شيء، والمثل زائد للتوكيد، قاله ثعلب. قوله عز وجل: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: خزائن السموات والأرض، قاله السدي. الثاني: مفاتيح السموات والأرض، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. ثم فيهما قولان: أحدهما: أنه المفاتيح بالفارسية، قاله مجاهد. الثاني: أنه عربي جمع واحده إقليد، قاله ابن عيسى. وفيما هو مفاتيح السموات والأرض خمسة أقاويل: أحدها: أن مفاتيح السماء المطر ومفاتيح الأرض النبات. الثاني: أنها مفاتيح الخير والشر. الثالث: أن مقاليد السماء الغيوب، ومقاليد الأرض الآفات. الرابع: أن مقاليد السماء حدوث المشيئة، ومقاليد الأرض ظهور القدرة. الخامس: أنها قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله وعلمه لعثمان بن عفان وقد سأله عن مقاليد السماء والأرض. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} فيه وجهان: أحدهما: يوسع ويضيق. الثاني: يسهل ويعسر. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من البسط والقدرة.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} وفي {شَرَعَ لَكُم} أربعة أوجه: أحدها: سن لكم. الثاني: بيَّن لكم. الثالث: اختار لكم، قاله الكلبي. الرابع: أوجب عليكم. {مِنَ الدِّينِ} يعني الدين ومن زائدة في الكلام. وفي {مَا وَصَّى بِهِ نوحاً} وجهان: أحدهما: تحريم الأمهات والبنات والأخوات، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم. ذلك، قاله الحكم. الثاني: تحليل الحلال وتحريم الحرام، قاله قتادة. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} فيه وجهان: أحدهما: اعملوا به، قاله السدي. الثاني: ادعوا إليه. قال مجاهد: دين الله في طاعته وتوحيده واحد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: جاهدوا عليه من عانده. {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وفيه وجهان: أحدهما: لا تتعادوا عليه، وكونوا عليه إخواناً، قاله أبو العالية. الثانية: لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله، قاله مقاتل. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قاله قتادة: من شهادة أن لا إله إلا الله. ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته، لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر. {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} هو من يسلم من الشرك، قاله الكلبي. الثاني: يستخلص إليه من يشاء. قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته، قاله السدي. قوله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقُواْ} فيه وجهان: أحدهما: عن محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: في القرآن. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من بعد ما تبحروا في العلم، قاله الأعمش. الثاني: إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال، قاله ابن زياد. الثالث: إلا من بعد ما جاءهم القرآن، وسماه علماً لأنه يتعلم منه. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لابتغاء الدنيا وطلب ملكها، قاله أُبي بن كعب. الثاني: لبغي بعضهم على بعض، قاله سعيد بن جبير. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ} فيه وجهان: أحدهما: في رحمته للناس على ظلمهم. الثاني: في تأخير عذابهم، قال قتادة. {إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم} الآية. ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم. {لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجل هلاكهم. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، قاله السدي. الثاني: أنهم نبئوا من بعد الأنبياء، قاله الربيع. {لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لفي شك من القرآن، قاله الربيع. الثاني: لفي شك من الإخلاص، قاله أبو العالية. الثالث: لفي شك من صدق الرسول، قاله السدي.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} قوله عز وجل: {فَلِذَالِكَ فَادْعُ} معناه فإلى ذلك فادع، وفي المراد بذلك وجهان: أحدهما: القرآن، قاله الكلبي. الثاني: التوحيد، قاله مقاتل. وفي قوله: {فَادْعُ} وجهان: أحدهما: فاعتمد. الثاني: فاستدع. {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: واستقم على أمر الله، قاله قتادة. الثاني: على القرآن، قاله سفيان. الثالث: فاستقم على تبليغ الرسالة، قاله الضحاك. وفي قوله: {... وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم} وجهان: أحدهما: في الأحكام. الثاني: في التبليغ. وفي قوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ثلاثة أوجه: أحدها: لا خصومة بيننا وبينكم، قاله مجاهد، قال السدي: وهذه قبل السيف، وقبل أن يؤمر بالجزية. الثاني: معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة، قاله ابن عيسى. الثالث: معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم. وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته.
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: في توحيد الله عز وجل. الثاني: أنهم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، قاله قتادة. {مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات. الثاني: من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة. الثالث: من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله، قاله ابن زيد. {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: باطلة، قاله ابن عيسى. الثاني: خاسرة، قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعجز الدال على صحته. الثاني: بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل. {وَالْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. الثاني: أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه، قاله قتادة. الثالث: أنه الميزان الذي يوزن به، أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس، قال قتادة: الميزان العدل. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فلم يخبره بها، ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} قوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا، قاله قتادة. الثاني: معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها. {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ} في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع.
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم، وهذا لقريش خاصة لأنه لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو مالك. الثاني: معناه إلا أن تؤدوا قرابتي، وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي. وروى مقسم عن ابن عباس قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار «أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ» فقالواْ: بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ: «أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟» فعد عليهم، قال: فجثوا على ركبهم وقالواْ: أنفسنا وأموالنا لك «. فنزلت {قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. الثالث: معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم، قاله ابن زيد. الرابع: معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح، قاله الحسن، وقتادة. الخامس: معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم، قاله عبد الله بن القاسم. {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً} أي يكتسب، وأصل القرف الكسب. {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي نضاعف له بالحسنة عشراً. {إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ} فيه وجهان: أحدهما: غفور للذنوب، شكور للحسنات، قاله قتادة. الثاني: غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، شكور لحسناتهم، قاله السدي. قوله عز وجل: {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن، قاله قتادة. الثاني: معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً، قاله مقاتل. الثالث: معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك، قاله ابن عيسى. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ينصر دينه بوعده. الثاني: يصدق رسوله بوحيه.
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ} والقنوط الإياس، قاله قتادة. قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: جدبت الأرض وقنط الناس فقال: مطروا إذن. والغيث ما كان نافعاً في وقته، والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته. {ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ} بالغيث فيما يعم ويخص. {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فيه وجهان: أحدهما: الولي المالك، والحميد مستحق الحمد. الثاني: الولي المنعم والحميد المستحمد.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} قوله عز وجل: {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه الحدود على المعاصي، قاله الحسن. الثاني: أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ» وقال ثابت البناني. كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم. الثاني: عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة، قاله العلاء بن زيد. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود، وهو مقتضى قول الحسن. الثاني: عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة. قال علي رضي الله عنه: ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.
{وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)} قوله عز وجل: {وَمِن ءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} قال مجاهد هي السفن في البحر {كَالأَعْلاَمِ} أي كالجبال، ومنه قول الخنساء: وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به *** كأنَّه علمٌ في رأسِه نار {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي وقوفاً على ظهر الماء، قال قتادة: لأن سفن هذا البحر تجري بالريح. فإذا أمسكت عنها ركدت. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على البلوى، شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر، وإذا ابتُلِيَ صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلٍ غير صابر. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ} معناه يغرقهن بذنوب أهلها. {ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ} من أهلها فلا يغرقهم معها. {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} فيه وجهان: أحدهما: من فرار ومهرب، قاله قطرب. الثاني: ملجأ، قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ} قال عبد الرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم. {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} فيها وجهان: أحدهما: أنه المحافظة على مواقيتها، قاله قتادة. الثاني: إتمامها بشروطها، قاله سعيد بن جبير. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فيه أربع أوجه: أحدها: أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به، قاله النقاش. الثاني: يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. الثالث: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له، قاله الضحاك. الرابع: أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يريد به أداء الزكاة من أموالهم، قاله السدي. الثاني: إنفاق الحلال من أكسابهم، وهو محتمل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم. قاله ابن جريج. الثاني: أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، قاله إبراهيم. الثالث: إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم، قاله ابن بحر.
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} قوله عز وجل: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فيه قولان: أحدهما: أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم، قاله الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان. الثاني: أنه محمول على مقابلة الجراح، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب، قاله ابن أبي نجيح والسدي. وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء. {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فأذن في الجزاء وندب إلى العفو. وفي قوله: {وأَصْلَحَ} وجهان: أحدهما: أصلح العمل، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أصلح بينه وبين أخيه، قاله ابن زياد، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ. روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ. مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ». {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الظالمين في الابتداء، قاله سعيد بن جبير. الثاني: المعتدي في الجزاء، قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي استوفى حقه بنفسه. {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان، وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء، وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ. والقسم الثاني: أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة. فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً، وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به، وإن كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه، وهو قول مالك، والشافعي. الثاني: المنع، قاله أبو حنيفة. قوله عز وجل: {إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} فيه قولان: أحدهما: يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم. الثاني: يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم، قاله ابن جريج. {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بغيهم في النفوس والأموال، وهو قول الأكثرين. الثاني: عملهم بالمعاصي، قاله مقاتل. الثالث: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً، قاله أبو مالك. قوله عز وجل: {وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: صبر على الأذى وغفر للمؤذي. الثاني: صبر عن المعاصي وستر المساوئ. ويحتمل قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وجهين: أحدهما: لمن عزائم الله التي أمر بها. الثاني: لمن عزائم الصواب التي وفق لها. وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك، وهي المدنيات من هذه السورة.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)} قوله عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها، قاله الأكثرون. الثاني: آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهم عرضهم، قاله ابن مسعود. الثالث: أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم، وهذا معنى قول أبي الحجاج. {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} قال السدي: خاضعين من الذل. {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً، قاله أبو سليمان. الثاني: يسارقون النظر إلى النار حذراً، قاله محمد بن كعب. الثالث: بطرفٍ ذليل، قاله ابن عباس.
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} قوله عز وجل: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ} فيه وجهان: أحدهما: من منج. الثاني: من حرز، قاله مجاهد. {وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر ينصركم، قاله مجاهد. الثاني: من منكر يغير ما حل بكم، حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي. قوله عز وجل: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا} فيها وجهان: أحدهما: أن الرحمة المطر، قاله مقاتل. الثاني: العافية، قاله الكلبي. {وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فيها وجهان: أحدهما: أنه السنة القحط، قاله مقاتل. الثاني: المرض، قاله الكلبي. {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالنعمة. الثاني: بالله.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} قوله عز وجل: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} قال عبيدة: يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم. وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} فيه وجهان: أحدهما: هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية، قاله مجاهد. الثاني: هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية، قاله محمد بن الحنفية، والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات. قال ابن قتيبة: تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار. {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أي لا يولد له. يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها، فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث، وجعل عيسى ويحيى عقيمين.
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} الآية. سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية. وفي قوله: {وَحْياً} وجهان: أحدهما: أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً، قاله مجاهد. الثاني: رؤيا يراها في منامه، قاله زهير بن محمد. {أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ} قال زهير: كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} قال زهير: هو جبريل. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً. وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين، فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: رحمة من عندنا، قاله قتادة. الثاني: وحياً من أمرنا، قاله السدي. الثالث: قرآناً من أمرنا، قاله الضحاك. {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} فيه وجهان: أحدهما: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الإيمان لولا البلوغ، قاله ابن عيسى. الثاني: ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل. وفي هذا الإيمان وجهان: أحدهما: أنه الإيمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. الثاني: أنه دين الإٍسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً...} فيه قولان: أحدهما: جعلنا القرآن نوراً، قاله السدي. الثاني: جعلنا الإيمان نوراً. حكاه النقاش وقاله الضحاك. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: معناه: وإنك لتدعو إلى دين مستقيم، قاله قتادة. الثاني: إلى كتاب مستقيم، قاله علي رضي الله عنه. وقرأ عاصم الجحدري: وإنك لتُهدى، بضم التاء أي لتُدْعَى. قوله عز وجل: {صِرَاطِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن صراط الله هو القرآن، قاله علي كرم الله وجهه. الثاني: الإٍسلام، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه وعيد بالبعث. الثاني: أنه وعيد بالجزاء، والله أعلم.
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} قوله عز وجل: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الكتاب هو القرآن: وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه بيِّن الحروف، قاله أبو معاذ. الثاني: لأنه بين الهدى والرشد والبركة، قاله قتادة. الثالث: لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه، قاله مقاتل. وفي هذا موضع القسم، وفيه وجهان: أحدهما: معناه ورب الكتاب. الثاني: أنه القسم بالكتاب، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه. وجواب القسم {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: إنا أنزلناه عربياً، قاله السدي. الثاني: إنا قلناه قرآناً عربياً، قاله مجاهد. الثالث: إنا بيناه قرآناً عربياً، قاله سفيان الثوري. ومعنى العربي أنه بلسان عربي، وفيه قولان: أحدهما: أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي، قاله مقاتل. الثاني: لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تفهمون، فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم، قاله ابن عيسى. الثاني: يتفكرون قاله ابن زيد، فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: جملة الكتاب. الثاني: أصل الكتاب، قاله ابن سيرين. الثالث: أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه، قاله ابن بحر. وفي {الْكِتَابِ} قولان: أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم، قاله ابن جريج. وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله الكلبي. الثاني: أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر، قاله ابن جريج. {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: رفيع عن أن ينال فيبدل. حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي. الثاني: أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب، وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن. قوله عز وجل: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس. الثاني: معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه، قاله مجاهد. الثالث: أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم، حكاه النقاش. الرابع: أن نقطع تذكيركم بالقرآن: وإن كذبتم به: قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أن نوعد ولا نؤاخذ، ونقول فلا نفعل. {قَوْماً مُّسْرِفِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مشركين، قاله قتادة. الثاني: مسرفين في الرد. ومعن صفحاً أي إعراضاً، يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه. قال ابن قتيبة: والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك. قال كثير في صفة امرأة: صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة *** فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت أي تعرض عنه بوجهها. قوله عز وجل: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سنة الأولين، قاله مجاهد. الثاني: عقوبة الأولين، قاله قتادة. الثالث: عِبرة الأولين، قاله السدي. الرابع: خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب، حكاه النقاش.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} قوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} أي فراشاً. {وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً} أي طرقاً. ويحتمل ثانياً: أي معايش. {لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تهتدون في أسفاركم، قاله ابن عيسى. الثاني: تعرفون نعمة الله عليكم، قاله سعيد بن جبير. ويحتمل ثالثاً: تهتدون إلى معايشكم. قوله عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الأصناف كلها، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، قاله ابن عيسى. الثالث: أن الأزواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والسموات والأرض، والشمس والقمر، والجنة والنار، قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر، وإيمان وكفر، وغنى وفقر، وصحة وسقم. {وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ} يعني السفن. {والأنعام ما تركبون} في الأنعام هنا قولان: أحدهما: الإبل والبقر، قاله سعيد بن جبير. الثاني: الإبل وحدها: قاله معاذ. فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر. ثم قال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا} وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع. {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي ركبتم. {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أي ذلل لنا هذا المركب. {وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضابطين، قاله الأخفش. الثاني: مماثلين في الأيد والقوة، قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. الثالث: مطيقين، قاله ابن عباس والكلبي، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب. لقد علم القبائل ما عقيل *** لنا في النائبات بمقرنينا وفي أصله قولان: أحدهما: أن أصله مأخوذ من الإقران، يقال أقرن فلان إذا أطاق. الثاني: أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير. وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر، فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن، قال فقصمت به فدقت عنقه.
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: عدلاً أي مثلاً، قاله قتادة. الثاني: من الملائكة ولداً، قاله مجاهد. الثالث: نصيباً، قاله قطرب. الرابع: أنه البنات، والجزء عند أهل العربية البنات. يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات. قال الشاعر: إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب *** قد تجزئ الحرة المذكارُ أحيانا {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. قوله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين. {ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً} يحتمل وجهين: أحدهما: ببطلان مثله الذي ضربه. الثاني: بما بشر به من الأنثى. {وَهُوَ كَظِيمٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حزين، قاله قتادة. الثاني: مكروب، قاله عكرمة. الثالث: ساكت، حكاه ابن أبي حاتم. وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. قوله عز وجل: {أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ} النشوء التربية، والحلية الزينة. وفي المراد بها ثلاثة أوجه: أحدها: الجواري، قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: البنات. قاله ابن قتيبة. الثالث: الأَصنام، قاله ابن زيد. وفي {الْخِصَامِ} وجهان: أحدهما: في الحجة. الثاني: في الجدل. {غَيْرُ مُبِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عني قلة البلاغة، قاله السدي. الثاني: ضعف الحجة، قال قتادة: ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها. الثالث: السكوت عن الجواب، قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام. قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً} في قوله {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وجهان: أحدهما: أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}. الثاني: أنه جمع عابد. وفي قوله: {إِنَاثاً} وجهان: أحدهما: أي بنات الرحمن. الثاني: ناقصون نقص البنات. {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: مشاهدتم وقت خلقهم. الثاني: مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا.
{أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} قوله عز وجل: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: على دين، قاله قتادة وعطية، ومنه قول قيس بن الخطيم: كنا على أمة آبائنا *** قد يقتدي الآخر بالأول الثاني: على ملة وهو قريب من معنى الأول، قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف. {قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ}. الثالث: على قبلة، حُكي ذلك عن الفراء. الرابع: على استقامة، قاله الأخفش، وأنشد النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع الخامس: على طريقة، قاله عمر بن عبد العزيز، وكان يقرأ {عَلَى أُمَّةٍ} بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم. حكاه الفراء. {وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} قال قتادة متبعون. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وأبي سفيان، وأبي جهل، وعتبة، وشيبة ابني ربيعة من قريش.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} البراء مصدر موضع الوصف، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فكأنه قال إنني بريء. {مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} وهذا استثناء منقطع وتقديره، لكن الذي فطرني أي خلقني: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه. قوله عز وجل: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: لا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها، قاله مجاهد، وقتادة. الثاني: ألا تعبدوا إلا الله، قاله الضحاك. الثالث: الإسلام، لقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قاله عكرمة. وفي {عَقِبِهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: ولده، قاله عكرمة. الثاني: في آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. الثالث: من خلفه، قاله ابن عباس. {لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرجعون إلى الحق، قاله إبراهيم. الثاني: يتوبون، قاله ابن عباس. الثالث: يذكرون، قاله قتادة. الرابع: يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم، قاله الفراء. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ} أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف. وأما عظيم مكة ففيه قولان: أحدهما: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس. الثاني: عتبة بن ربيعة، قاله مجاهد. وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه حبيب بن عمر الثقفي، قاله ابن عباس. الثاني: [عمير] بن عبد ياليل، [الثقفي] قاله مجاهد. الثالث: عروة بن مسعود، قاله قتادة. الرابع: أنه كنانة [عبد] بن عمرو، قاله السدي. قوله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنَْيَا} يعني أرزاقهم، قال قتادة: فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. {وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: بالفضائل، فمنهم فاضل ومنهم مفضول، قاله مقاتل. الثاني: بالحرية والرق، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. الثالث: بالغنى والفقر، فبعضهم غني، وبعضهم فقير. الرابع: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الخامس: قاله السدي، التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة. {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني خدماً، قاله السدي. الثاني: ملكاً، قاله قتادة. {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن النبوة خير من الغنى. الثاني: أن الجنة خير من الدنيا. الثالث: أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل. الرابع: أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم، قاله بعض أصحاب الخواطر. قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً} فيه وجهان: أحدهما: على دين واحد كفاراً، قاله ابن عباس والسدي. الثاني: على اختيار الدنيا على الدين، قاله ابن زيد. {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها أعالي البيوت، قاله قتادة، ومجاهد. الثاني: الأبواب، قاله النقاش. {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قال ابن عباس: المعارج الدرج، وهو قول الجمهور وأحدها معراج. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي درج من فضة عليها يصعدون، والظهور الصعود. وأنشد: نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: علونا السماء عفة وتكرما *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إِلَى أَينَ» قال: إلى الجنة. قال: «أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ» قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟ {وَزُخْرُفاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذهب: قاله ابن عباس. وأنشد قطرب قول ذي الأصبع: زخآرف أشباهاً تخال بلوغها *** سواطع جمر من لظى يتلهب الثاني: الفرش ومتاع البيت، قاله ابن زيد. الثالث: أنه النقوش، قاله الحسن.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعرض، قاله قتادة. الثاني: يعمى، قاله ابن عباس. الثالث: أنه السير في الظلمة، مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف، ومنه قول الشاعر: لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره *** إذا الريحُ هبّت والمكان جديب وفي قوله: {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ثلاثة أوجه: أحدها: عن ذكر الله، قاله قتادة. الثاني: عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي، وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: عن القرآن لأنه كلام الرحمن، قاله الكلبي. {نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} فيه وجهان: أحدهما: نلقيه شيطاناً. الثاني: نعوضه شيطاناً، مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية، وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار، قاله سعيد بن جبير. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَآءَنا} قرأ على التوحيد أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، يعني ابن آدم، وقرأ الباقون {جَاءَانَا} على التثنية يعني ابن آدم وقرينه. {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ} هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان: أحدهما: أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل: سنة العمرين، كقول الشاعر: أخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع الثاني: أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كقوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}. قوله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان: أحدهما: إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر. الثاني: فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن ذكر لك [ولقومك]. وفي {لَذِكْرٌ} قولان: أحدهما: الشرف، أي شرف لك ولقومك، قاله ابن عباس. الثاني: أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به، حكاه ابن عيسى. {وَلِقَوْمِكَ} فيه قولان: أحدهما: من اتبعك من أمتك، قاله قتادة. الثاني: لقومك من قريش فيقال: ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب، فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش، قاله مجاهد. {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: عن الشكر، قاله مقاتل. الثاني: أنت ومن معك عما أتاك، قاله ابن جريج. وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي. قوله عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء، قاله ابن عباس، وابن زيد، وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم، قاله ابن عباس. الثاني: أهل الكتابين التوراة والإنجيل، قاله قتادة، والضحاك، ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا. الثالث: جبريل، ويكون تقديره. واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا، حكاه النقاش. {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه. واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم، فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد، قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل: هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك.
|